فصل: تفسير الآيات رقم (97- 105)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏94‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب‏}‏ ابتدعه على الله بزعمه أنه حرم ذلك قبل نزول التوراة على بني إسرائيل ومن قبلهم‏.‏ ‏{‏مِن بَعْدِ ذلك‏}‏ من بعد ما لزمتهم الحجة‏.‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون‏}‏ الذين لا ينصفون من أنفسهم ويَكابرون الحق بعدما وضح لهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏95- 96‏]‏

‏{‏قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏95‏)‏ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ صَدَقَ الله‏}‏ تعريض بكذبهم، أي ثبت أن الله صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون‏.‏ ‏{‏فاتبعوا مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفاً‏}‏ أي ملة الإِسلام التي هي في الأصل ملة إبراهيم، أو مثل ملته حتى تتخلصوا من اليهودية التي اضطرتكم إلى التحريف والمكابرة لتسوية الأغراض الدنيوية، وألزمتكم تحريم طيبات أحلها الله لإِبراهيم ومن تبعه‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانَ مِنَ المشركين‏}‏ فيه إشارة إلى أن اتباعه واجب في التوحيد الصرف والاستقامة في الدين والتجنب عن الإِفراط والتفريط، وتعريض بشرك اليهود‏.‏

‏{‏إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ‏}‏ أي وضع للعبادة وجعل متعبداً لهم، والواضع هو الله تعالى‏.‏ ويدل عليه أنه قرئ على البناء للفاعل‏.‏ ‏{‏لَلَّذِى بِبَكَّةَ‏}‏ للبيت الذي ‏{‏بِبَكَّةَ‏}‏، وهي لغة في مكة كالنبيط والنميط، وأمر راتب وراتم ولازب ولازم، وقيل هي موضع المسجد‏.‏ ومكة البلد من بكة إذا زحمه، أو من بكه إذا دقه فإنها تبك أعناق الجبابرة روي ‏(‏أنه عليه السلام سئل عن أول بيت وضع للناس فقال‏:‏ «المسجد الحرام، ثم بيت المقدس‏.‏ وسئل كم بينهما فقال أربعون سنة» وقيل أول من بناه إبراهيم ثم هدم فبناه قوم من جرهم، ثم العمالقة، ثم قريش‏.‏ وقيل هو أول بيت بناه آدم فانطمس في الطوفان، ثم بناه إبراهيم‏.‏ وقيل‏:‏ كان في موضعه قبل آدم بيت يقال له الضراح يطوف به الملائكة، فلما أهبط آدم أمر بأن يحجه ويطوف حوله ورفع في الطوفان إلى السماء الرابعة تطوف به ملائكة السموات وهو لا يلائم ظاهر الآية‏.‏ وقيل المراد إنه أول بيت بالشرف لا بالزمان‏.‏ ‏{‏مُبَارَكاً‏}‏ كثير الخير والنفع لمن حجه واعتمره واعتكف دونه وطاف حوله، حال من المستكن في الظرف ‏{‏وَهُدًى للعالمين‏}‏ لأنه قبلتهم ومتعبدهم، ولأن فيه آيات عجيبة كما قال‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏97- 105‏]‏

‏{‏فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ‏(‏97‏)‏ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ‏(‏98‏)‏ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏99‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ‏(‏100‏)‏ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏101‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏102‏)‏ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏103‏)‏ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏104‏)‏ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏105‏)‏‏}‏

‏{‏فِيهِ ءايات بينات‏}‏ كانحراف الطيور عن موازاة البيت على مدى الأعصار، وأن ضواري السباع تخالط الصيود في الحرم ولا تتعرض لها، وإن كل جبار قصده بسوء قهره الله كأصحاب الفيل‏.‏ والجملة مفسرة للهدى، أو حال أخرى‏.‏ ‏{‏مَّقَامِ إبراهيم‏}‏ مبتدأ محذوف خبره أي منها مقام إبراهيم، أو بدل من آيات بدل البعض من الكل‏.‏ وقيل عطف بيان على أن المراد بالآيات أثر القدم في الصخرة الصماء وغوصها فيها إلى الكعبين، وتخصيصها بهذه الإلانة من بين الصخار وإبقاؤه دون سائر آثار الأنبياء وحفظه مع كثرة أعدائه ألوف السنين‏.‏ ويؤيده أنه قرئ «آية» بينة على التوحيد‏.‏ وسبب هذا الأثر أنه لما ارتفع بنيان الكعبة قام على هذا الحجر ليتمكن من رفع الحجارة فغاصت فيه قدماه‏.‏ ‏{‏وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً‏}‏ جملة ابتدائية، أو شرطية معطوفة من حيث المعنى على مقام لأنه في معنى أمن من دخله أي ومنها أمن من دخله، أو فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله‏.‏ اقتصر بذكرهما من الآيات الكثيرة وطوى ذكر غيرهما كقوله عليه السلام ‏"‏ حبب إليَّ من دنياكم ثلاث‏:‏ الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة ‏"‏ لأن فيهما غنية عن غيرها في الدارين بقاء الأثر مدى الدهر والأمن من العذاب يوم القيامة، قال عليه السلام‏:‏ ‏"‏ من مات في أحد الحرمين، بعث يوم القيامة آمناً ‏"‏ وعند أبي حنيفة من لزمه القتل بردة أو قصاص أو غيرهما والتجأ إلى الحرم لم يتعرض له ولكن ألجئ إلى الخروج‏.‏ ‏{‏وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت‏}‏ قصده للزيارة على الوجه المخصوص‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص ‏{‏حَجَّ‏}‏ بالكسر وهو لغة نجد‏.‏ ‏{‏مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً‏}‏ بدل من الناس بدل البعض من الكل مخصص له، وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستطاعة ‏"‏ بالزاد والراحلة ‏"‏ وهو يؤيد قول الشافعي رضي الله تعالى عنه إنها بالمال، ولذلك أوجب الاستنابة على الزمن إذا وجد أجرة من ينوب عنه‏.‏ وقال مالك رحمه الله تعالى إنها بالبدن فيجب على من قدر على المشي والكسب في الطريق‏.‏ وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى إنها بمجموع الأمرين‏.‏ والضمير في إليه للبيت، أو الحج وكل ما أتى إلى الشيء فهو سبيله‏.‏ ‏{‏وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين‏}‏ وضع كفر موضع من لم يحج تأكيداً لوجوبه وتغليظاً على تاركه، ولذلك قال عليه السلام ‏"‏ من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً ‏"‏ وقد أكد أمر الحج في هذه الآية من وجوبه الدلالة على وجوه بصيغة الخبر، وإبرازه في الصورة الإِسمية وإيراده على وجه يفيد أنه حق واجب لله تعالى في رقاب الناس، وتعميم الحكم أولاً ثم تخصيصه ثانياً فإنه كإيضاح بعد إيهام وتثنية وتكرير للمراد، وتسمية ترك الحج كفراً من حيث إنه فعل الكفرة، وذكر الاستغناء فإنه في هذا الموضع مما يدل على المقت والخذلان وقوله‏:‏ ‏{‏عَنِ العالمين‏}‏ يدل عليه لما فيه من مبالغة التعميم والدلالة على الاستغناء عنه بالبرهان والإِشعار بعظم السخط، لأنه تكليف شاق جامع بين كسر النفس وإتعاب البدن وصرف المال والتجرد عن الشهوات والإِقبال على الله‏.‏

روي ‏(‏أنه لما نزل صدر الآية جمع رسول صلى الله عليه وسلم أرباب الملل فخطبهم وقال «إن الله تعالى‏:‏ كتب عليكم الحج فحجوا فآمنت به ملة واحدة وكفرت به خمس ملل فنزل ومن كفر» ‏{‏قُلْ ياأهل الكتاب لَمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ الله‏}‏ أي بآياته السمعية والعقلية الدالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما يدعيه من وجوب الحج وغيره، وتخصيص أهل الكتاب بالخطاب دليل على أن كفرهم أقبح، لأن معرفتهم بالآيات أقوى وأنهم وإن زعموا أنهم مؤمنون بالتوراة والإِنجيل فهم كافرون بهما‏.‏ ‏{‏والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ‏}‏ والحال أنه شهيد مطلع على أعمالكم فيجازيكم عليها لا ينفعكم التحريف والاستسرار‏.‏

‏{‏قُلْ ياأهل الكتاب لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ ءامَنَ‏}‏ كرر الخطاب والاستفهام مبالغة في التقريع ونفي العذر لهم، وإشعاراً بأن كل واحد من الأمرين مستقبح في نفسه مستقل باستجلاب العذاب، وسبيل الله في دينه الحق المأمور بسلوكه وهو الإسلام‏.‏ قيل كانوا يفتنون المؤمنين ويحرشون بينهم حتى أتوا الأوس والخزرج فذكروهم ما بينهم في الجاهلية من التعادي والتحارب ليعودوا لمثله ويحتالون لصدهم عنه‏.‏ ‏{‏تَبْغُونَهَا عِوَجاً‏}‏ حال من الواو أي باغين طالبين لها اعوجاجاً بأن تلبسوا على الناس وتوهموا أن فيه عوجاً عن الحق، بمنع النسخ وتغيير صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحوهما، أو بأن تحرشوا بين المؤمنين لتختلف كلمتهم ويختل أمر دينهم‏.‏ ‏{‏وَأَنْتُمْ شُهَدَاء‏}‏ إنها سبيل الله والصد عنها ضلال وإضلال، أو أنتم عدول عند أهل ملتكم يثقون بأقوالكم ويستشهدونكم في القضايا‏.‏ ‏{‏وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ وعيد لهم، ولما كان المنكر في الآية الأولى كفرهم وهم يجهرون به ختمها بقوله‏:‏ ‏{‏والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏ ولما كان في هذه الآية صدهم للمؤمنين عن الإسلام وكانوا يخفونه ويحتالون فيه قال ‏{‏وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏يا أيها الذين ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب يَرُدُّوكُم بَعْدَ إيمانكم كافرين‏}‏ نزلت في نفر من الأوس والخزرج كانوا جلوساً يتحدثون، فمر بهم شاس بن قيس اليهودي فغاظه تألفهم واجتماعهم فأمر شاباً من اليهود أن يجلس إليهم ويذكرهم يوم بعاث وينشدهم بعض ما قيل فيه، وكان الظفر في ذلك اليوم للأوس، ففعل فتنازع القوم وتفاخروا وتغاضبوا وقالوا السلاح السلاح، واجتمع مع القبيلتين خلق عظيم، فتوجه إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقال

«أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن أكرمكم الله بالإِسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بين قلوبكم» فعلموا أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح واستغفروا وعانق بعضهم بعضاً وانصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وإنما خاطبهم الله بنفسه بعدما أمر الرسول بأن يخاطب أهل الكتاب إظهاراً لجلالة قدرهم، وإشعاراً بأنهم هم الأحقاء بأن يخاطبهم الله ويكلمهم‏.‏

‏{‏وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ ءايات الله وَفِيكُمْ رَسُولُهُ‏}‏ إنكار وتعجيب لكفرهم في حال اجتمع لهم الأسباب الداعية إلى الإيمان الصارفة عن الكفر‏.‏ ‏{‏وَمَن يَعْتَصِم بالله‏}‏ ومن يتمسك بدينه أو يلتجئ إليه في مجامع أموره‏.‏ ‏{‏فَقَدْ هُدِيَ إلى صراط مّسْتَقِيمٍ‏}‏ فقد اهتدى لا محالة‏.‏

‏{‏يا أيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ حق تقواه وما يجب منها، وهو استفراغ الوسع في القيام بالواجب والاجتناب عن المحارم كقوله‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله مَا استطعتم‏}‏ وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه‏:‏ هو أن يطيع فلا يعصي، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى‏.‏ وقيل هو‏:‏ أن تنزه الطاعة عن الالتفات إليها وعن توقع المجازاة عليها‏.‏ وفي هذا الأمر تأكيد للنهي عن طاعة أهل الكتاب، وأصل تقاة وقية فقلبت واوها المضمومة تاء كما في تؤده وتخمه والياء ألفاً‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ أي ولا تكونن على حال سوى حال الإِسلام إذا أدرككم الموت، فإن النهي عن المقيد بحال أو غيرها قد يتوجه بالذات نحو الفعل تارة والقيد أخرى وقد يتوجه نحو المجموع دونهما وكذلك النفي‏.‏

‏{‏واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً‏}‏ بدين الإِسلام، أو بكتابه لقوله عليه السلام‏:‏ «القرآن حبل الله المتين»‏.‏ استعار له الحبل من حيث إن التمسك به سبب للنجاة من الردي، كما أن التمسك بالحبل سبب للسلامة من التردى والوثوق به والاعتماد عليه الاعتصام ترشيحاً للمجاز‏.‏ ‏{‏جَمِيعاً‏}‏ مجتمعين عليه ‏{‏وَلاَ تَفَرَّقُواْ‏}‏ أي ولا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم كأهل الكتاب، أو لا تتفرقوا تفرقكم في الجاهلية يحارب بعضكم بعضاً، أو لا تذكروا ما يوجب التفرق ويزيل الألفة‏.‏ ‏{‏واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ‏}‏ التي من جملتها الهداية والتوفيق للإِسلام المؤدي إلى التآلف وزوال الغل‏.‏ ‏{‏إِذْ كُنتُم أَعْدَاءً‏}‏ في الجاهلية متقاتلين‏.‏ ‏{‏فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ‏}‏ بالإِسلام‏.‏ ‏{‏فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً‏}‏ متحابين مجتمعين على الأخوة في الله‏.‏ وقيل كان الأوس والخزرج أخوين فوقع بين أولادهما العداوة وتطاولت الحروب مائة وعشرين سنة حتى أطفأها الله بالإِسلام وألف بينهم برسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏وَكُنتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النار‏}‏ مشرفين على الوقوع في نار جهنم لكفركم، إذ لو أدرككم الموت على تلك الحالة لوقعتم في النار‏.‏

‏{‏فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا‏}‏ بالإِسلام، والضمير للحفرة، أو للنار، أو للشفا‏.‏ وتأنيثه لتأنيث ما أضيف إليه أو لأنه بمعنى الشفة فإن شفا البئر وشفتها طرفها كالجانب والجانبة، وأصله شفو فقلبت الواو ألفاً في المذكر وحذفت في المؤنث‏.‏ ‏{‏كذلك‏}‏ مثل ذلك التبيين‏.‏ ‏{‏يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته‏}‏ دلائله‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏ إرادة ثباتكم على الهدى وازديادكم فيه‏.‏

‏{‏وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر‏}‏ من للتبعيض، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية، ولأنه لا يصلح له كل أحد إذ للمتصدي له شروط لا يشترك فيها جميع الأمة كالعلم بالأحكام ومراتب الاحتساب وكيفية إقامتها والتمكن من القيام بها‏.‏ خاطب الجميع وطلب فعل بعضهم ليدل على أنه واجب على الكل حتى لو تركوه رأساً أثموا جميعاً ولكن يسقط بفعل بعضهم، وهكذا كل ما هو فرض كفاية‏.‏ أو للتبيين بمعنى وكونوا أمة يدعون كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف‏}‏ والدعاء إلى الخير يعم الدعاء إلى ما فيه صلاح ديني أو دنيوي، وعطف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عطف الخاص على العام للإيذان بفضله‏.‏ ‏{‏وأولئك هُمُ المفلحون‏}‏ المخصوصون بكمال الفلاح روي‏:‏ أنه عليه السلام سئل من خير الناس فقال‏:‏ «آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم للرحم» والأمر بالمعروف يكون واجباً ومندوباً على حسب ما يؤمر به‏.‏ والنهي عن المنكر واجب كله لأن جميع ما أنكره الشرع حرام‏.‏ والأظهر أن العاصي يجب عليه أن ينهى عما يرتكبه لأنه يجب عليه تركه وإنكاره فلا يسقط بترك أحدهما وجوب الآخر‏.‏

‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا‏}‏ كاليهود والنصارى اختلفوا في التوحيد والتنزيه وأحوال الآخرة على ما عرفت‏.‏ ‏{‏مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ البينات‏}‏ الآيات والحجج المبينة للحق الموجبة للاتفاق عليه‏.‏ والأظهر أن النهي فيه مخصوص بالتفرق في الأصول دون الفروع لقوله عليه السلام «اختلاف أمتي رحمة» ولقوله عليه الصلاة والسلام «من اجتهد فأصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر واحد» ‏{‏وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ وعيد للذين تفرقوا وتهديد على التشبه بهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏

‏{‏يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏106‏)‏‏}‏

‏{‏يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ‏}‏ نصب بما في لهم من معنى الفعل، أو بإضمار اذكر‏.‏ وبياض الوجه وسواده كنايتان عن ظهور بهجة السرور وكآبة الخوف فيه‏.‏ وقيل يوسم أهل الحق ببياض الوجه والصحيفة وإشراق البشرة وسعي النور بين يديه وبيمينه، وأهل الباطل بأضداد ذلك‏.‏ ‏{‏فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانكم‏}‏ على إرادة القول أي فيقال لهم أكفرتم، والهمزة للتوبيخ والتعجيب من حالهم، وهم المرتدون أو أهل الكتاب كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم به قبل مبعثه، أو جميع الكفار كفروا بعدما أقروا به حين أشهدهم على أنفسهم أو تمكنوا من الإِيمان بالنظر في الدلائل والآيات‏.‏ ‏{‏فَذُوقُواْ العذاب‏}‏ أمر إهانة‏.‏ ‏{‏بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ‏}‏ بسبب كفركم أو جزاء لكفركم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏107‏]‏

‏{‏وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏107‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَمَّا الذين ابيضت وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ الله‏}‏ يعني الجنة والثواب المخلد، عبر عن ذلك بالرحمة تنبيهاً على أن المؤمن وإن استغرق عمره في طاعة الله تعالى لا يدخل الجنة إلا برحمته وفضله، وكان حق الترتيب أن يقدم ذكرهم لكن قصد أن يكون مطلع الكلام ومقطعه حلية المؤمنين وثوابهم‏.‏ ‏{‏هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ أخرجه مخرج الاستئناف للتأكيد كأنه قيل‏:‏ كيف يكونون فيها‏؟‏ فقال هم فيها خالدون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

‏{‏تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ ‏(‏108‏)‏‏}‏

‏{‏تِلْكَ آيات الله‏}‏ الواردة في وعده ووعيده ‏{‏نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق‏}‏ ملتبسة بالحق لا شبهة فيها‏.‏ ‏{‏وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً للعالمين‏}‏ إذ يستحيل الظلم منه لأنه لا يحق عليه شيء فيظلم بنقصه، ولا يمنع عن شيء فيظلم بفعله، لأنه المالك على الإِطلاق كما قال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏109‏)‏‏}‏

‏{‏وَللَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور‏}‏ فيجازي كلا بما وعد له وأوعد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏110‏)‏‏}‏

‏{‏كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ‏}‏ دل على خيريتهم فيما مضى ولم يدل على انقطاع طرأ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏ وقيل كنتم في علم الله أو في اللوح المحفوظ، أو فيما بين الأمم المتقدمين‏.‏ ‏{‏أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏ أي أظهرت لهم‏.‏ ‏{‏تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر‏}‏ استئناف بين به كونهم ‏{‏خَيْرَ أُمَّةٍ‏}‏، أو خبر ثان لكنتم‏.‏ ‏{‏وَتُؤْمِنُونَ بالله‏}‏ يتضمن الإِيمان بكل ما يجب أن يؤمن به، لأن الإِيمان به إنما يحق ويعتد به إذا حصل الإِيمان بكل ما أمر أن يؤمن به، وإنما أخره وحقه أن يقدم لأنه قصد بذكره الدلالة على أنهم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر إيماناً بالله وتصديقاً به وإظهاراً لدينه، واستدل بهذه الآية على إن الاجماع حجة لأنها تقتضي كونهم آمرين بكل معروف وناهين عن كل منكر، إذ اللام فيهما للاستغراق فلو أجمعوا على باطل كان أمرهم على خلاف ذلك‏.‏ ‏{‏وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الكتاب‏}‏ إيماناً كما ينبغي ‏{‏لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ‏}‏ لكان الإِيمان خيراً لهم مما هم عليه‏.‏ ‏{‏مّنْهُمُ المؤمنون‏}‏ كعبد الله بن سلام وأصحابه‏.‏ ‏{‏وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون‏}‏ المتمردون في الكفر، وهذه الجملة والتي بعدها واردتان على سبيل الاستطراد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏111- 118‏]‏

‏{‏لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ‏(‏111‏)‏ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ‏(‏112‏)‏ لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ‏(‏113‏)‏ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏114‏)‏ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ‏(‏115‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏116‏)‏ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏117‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏118‏)‏‏}‏

‏{‏لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى‏}‏ ضرراً يسيراً كطعن وتهديد‏.‏ ‏{‏وَإِن يقاتلوكم يُوَلُّوكُمُ الأدبار‏}‏ ينهزموا ولا يضروكم بقتل وأسر‏.‏ ‏{‏ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ‏}‏ ثم لا يكون أحد ينصرهم عليكم أو يدفع بأسكم عنهم، نفي إضرارهم سوى ما يكون بقول وقرر ذلك بأنهم لو قاموا إلى القتال كانت الدبرة عليهم، ثم أخبر بأنه تكون عاقبتهم العجز والخذلان‏.‏ وقرئ «لا ينصروا» عطفاً على يولوا على أن ثم للتراخي في الرتبة فيكون عدم النصر مقيداً بقتالهم، وهذه الآية من المغيبات التي وافقها الواقع إذ كان ذلك حال قريظة والنضير وبني قينقاع ويهود خيبر‏.‏

‏{‏ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة‏}‏ هدر النفس والمال والأهل، أو ذل التمسك بالباطل والجزية‏.‏ ‏{‏أَيْنَمَا ثُقِفُواْ‏}‏ وجدوا ‏{‏إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ الله وَحَبْلٍ مّنَ الناس‏}‏ استثناء من أعم عام الأحوال أي ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال إلا معتصمين، أو ملتبسين بذمة الله أو كتابة الذي آتاهم وذمة المسلمين، أو بدين الإِسلام واتباع سبيل المؤمنين‏.‏ ‏{‏وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ الله‏}‏ رجعوا به مستوجبين له ‏{‏وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة‏}‏ فهي محيطة بهم إحاطة البيت المضروب على أهله، واليهود في غالب الأمر فقراء ومساكين‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ما ذكر ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب‏.‏ ‏{‏بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ‏}‏ بسبب كفرهم بالآيات وقتلهم الأنبياء‏.‏ والتقييد بغير حق مع أنه كذلك في نفس الأمر للدلالة على أنه لم يكن حقاً بحسب اعتقادهم أيضاً‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الكفر والقتل‏.‏ ‏{‏بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ‏}‏ بسبب عصيانهم واعتدائهم حدود الله، فإن الإِصرار على الصغائر يفضي إلى الكبائر والاستمرار عليها يؤدي إلى الكفر‏.‏ وقيل معناه أن ضرب الذلة في الدنيا واستيجاب الغضب في الآخرة كما هو معلل بكفرهم وقتلهم فهو مسبب عن عصيانهم واعتدائهم من حيث إنهم مخاطبون بالفروع أيضاً‏.‏

‏{‏لَيْسُواْ سَوَاء‏}‏ في المساوي والضمير لأهل الكتاب‏.‏ ‏{‏مّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَائِمَةٌ‏}‏ استئناف لبيان نفي الاستواء، والقائمة المستقيمة العادلة من أقمت العود فقام وهم الذين أسلموا منهم‏.‏ ‏{‏يَتْلُونَ ءايات الله ءَانَاء اليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ‏}‏ يتلون القرآن في تهجدهم‏.‏ عَبَّر عنه بالتلاوة في ساعات الليل مع السجود ليكون أبين وأبلغ في المدح‏.‏ وقيل المراد صلاة العشاء لأن أهل الكتاب لا يصلونها لما روي ‏(‏أنه عليه الصلاة والسلام أخرها ثم خرج فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال‏:‏ ‏"‏ أما أنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم ‏"‏‏.‏ ‏{‏يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الأخر وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر ويسارعون فِي الخيرات‏}‏ صفات أخر لأمة وصفهم بخصائص ما كانت في اليهود، فإنهم منحرفون عن الحق غير متعبدين في الليل مشركون بالله ملحدون في صفاته، واصفون اليوم الآخر بخلاف صفته، مداهنون في الاحتساب متباطئون عن الخيرات‏.‏

‏{‏وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصالحين‏}‏ أي الموصوفون بتلك الصفات ممن صلحت أحوالهم عند الله واستحقوا رضاه وثناءه‏.‏

‏{‏وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ‏}‏ فلن يضيع ولا ينقص ثوابه ألبتة، سمي ذلك كفراناً كما سمي توفية الثواب شكراً، وتعديته إلى مفعولين لتضمنه معنى الحرمان، وقرأ حفص وحمزة والكسائي ‏{‏وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ‏}‏ بالياء والباقون بالتاء‏.‏ ‏{‏والله عَلِيمٌ بالمتقين‏}‏ بشارة لهم وإشعار بأن التقوى مبدأ الخير وحسن العمل، وأن الفائز عند الله هو أهل التقوى‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مّنَ الله شَيْئًا‏}‏ من العذاب، أو من الغناء فيكون مصدراً‏.‏ ‏{‏وَأُوْلئِكَ أصحاب النار‏}‏ ملازموها‏.‏ ‏{‏هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏‏.‏

‏{‏مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ‏}‏ ما ينفق الكفرة قربة، أو مفاخرة وسمعة، أو المنافقون رياء أو خوفاً‏.‏ ‏{‏فِي هذه الحياة الدنيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ‏}‏ برد شديد والشائع إطلاقة للريح الباردة كالصرر، فهو في الأصل مصدر نعت به أو نعت وصف به البرد للمبالغة كقولك برد بارد‏.‏ ‏{‏أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ‏}‏ بالكفر والمعاصي ‏{‏فَأَهْلَكَتْهُ‏}‏ عقوبة لهم لأن الإِهلاك عن سخط أشد، والمراد تشبيه ما انفقوا في ضياعه بحرث كفار ضربته صر فاستأصلته ولم يبق لهم فيه منفعة ما في الدنيا والآخرة، وهو من التشبيه المركب ولذلك لم يبال بإيلاء كلمة التشبيه للريح دون الحرث، ويجوز أن يقدر كمثل مهلك ريح وهو الحرث‏.‏ ‏{‏وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولكن أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ أي ما ظلم المنفقين بضياع نفقاتهم، ولكنهم ظلموا أنفسهم لما لم ينفقوها بحيث يعتد بها، أو ما ظلم أصحاب الحرث بإهلاكه ولكنهم ظلموا أنفسهم بارتكاب ما استحقوا به العقوبة‏.‏ وقرئ ‏{‏ولكن‏}‏ أي ولكن أنفسهم يظلمونها، ولا يجوز أن يقدر ضمير الشأن لأنه لا يحذف إلا في ضرورة الشعر كقوله‏:‏

وَمَا كُنْتُ مِمَّنْ يَدْخُلُ العِشْقُ قَلْبَه *** وَلَكِنَّ مَنْ يُبْصِرْ جُفُونَكِ يَعْشَقِ

‏{‏يا أيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً‏}‏ وليجة، وهو الذي يعرفه الرجل أسراره ثقة به، شبه ببطانة الثوب كما شبه بالشعار قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «الأنصار شعار والناس دثار»‏.‏ ‏{‏مّن دُونِكُمْ‏}‏ من دون المسلمين، وهو متعلق بلا تتخذوا، أو بمحذوف هو صفة بطانة أي بطانة كائنة من دونكم‏.‏ ‏{‏لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً‏}‏ أي لا يقصرون لكم في الفساد، والألو التقصير وأصله أن يعدى بالحرف وعدي إلى مفعولين كقولهم‏:‏ لا آلوك نصحاً على تضمين معنى المنع أو النقص‏.‏ ‏{‏وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ‏}‏ تمنوا عنتكم، وهو شدة الضرر والمشقة وما مصدرية‏.‏ ‏{‏قَدْ بَدَتِ البغضاء مِنْ أفواههم‏}‏ أي في كلامهم لأنهم لا يتمالكون أنفسهم لفرط بغضهم‏.‏ ‏{‏وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ‏}‏ مما بدا لأن بدوه ليس عن روية واختيار‏.‏ ‏{‏قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات‏}‏ الدالة على وجوب الإِخلاص وموالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين‏.‏ ‏{‏إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ ما بين لكم، والجمل الأربع جاءت مستأنفات على التعليل، ويجوز أن تكون الثلاث الأول صفات لبطانة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏119‏]‏

‏{‏هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏119‏)‏‏}‏

‏{‏هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ‏}‏ أي أنتم أولاء الخاطئون في موالاة الكفار وتحبونهم ولا يحبونكم، بيان لخطئهم في موالاتهم، وهو خبر ثان أو خبر لأولاء والجملة خبر لأنتم كقولك‏:‏ أنت زيد تحبه، أو صلته أو حال والعامل فيها معنى الإِشارة، ويجوز أن ينصب أولاء بفعل مضمر يفسره ما بعده وتكون الجملة خبراً‏.‏ ‏{‏وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلّهِ‏}‏ بجنس الكتاب كله، وهو حال من لا يحبونكم والمعنى‏:‏ إنهم لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم أيضاً فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بكتابكم، وفيه توبيخ بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم‏.‏ ‏{‏وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا‏}‏ نفاقاً وتغريراً ‏{‏وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ‏}‏ من أجله تأسفاً وتحسراً حيث لم يجدوا إلى التشفي سبيلاً‏.‏ ‏{‏قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ‏}‏ دعاء عليهم بدوام الغيظ وزيادته بتضاعف قوة الإِسلام وأهله حتى يهلكوا به‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور‏}‏ فيعلم ما في صدورهم من البغضاء والحنق، وهو يحتمل أن يكون من المقول أي وقل لهم إن الله عليم بما هو أخفى مما تخفونه من عض الأنامل غيظاً، وأن يكون خارجاً عنه بمعنى قل لهم ذلك ولا تتعجب من اطلاعي إياك على أسرارهم فإني عليم بالأخفى من ضمائرهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏120‏]‏

‏{‏إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ‏(‏120‏)‏‏}‏

‏{‏إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا‏}‏ بيان لتناهي عداوتهم إلى حد حسدوا ما نالهم من خير ومنفعة، وشمتوا بما أصابهم من ضر وشدة، والمس مستعار للإِصابة ‏{‏وَأَن تَصْبِرُواْ‏}‏ على عداوتهم، أو على مشاق التكاليف‏.‏ ‏{‏وَتَتَّقُواْ‏}‏ موالاتهم، أو ما حرم الله جل جلاله عليكم‏.‏ ‏{‏لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً‏}‏ بفضل الله عز وجل وحفظه الموعود للصابرين والمتقين ولأن المجد في الأمر، المتدرب بالاتقاء والصبر يكون قليل الانفعال جرياً على الخصم، وضمه الراء للاتباع كضمة مد‏.‏ وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب ‏{‏لاَ يَضُرُّكُمْ‏}‏ من ضاره يضيره‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ‏}‏ من الصبر والتقوى وغيرهما‏.‏ ‏{‏مُحِيطٌ‏}‏ أي محيط علمه فيجازيكم مما أنتم أهله‏.‏ وقرئ بالياء أي ‏{‏بِمَا يَعْمَلُونَ‏}‏، في عداوتكم عليم فيعاقبهم عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏121- 121‏]‏

‏{‏وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏121‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ غَدَوْتَ‏}‏ أي واذكر إذ غدوت‏.‏ ‏{‏مِنْ أَهْلِكَ‏}‏ أي من حجرة عائشة رضي الله عنها‏.‏ ‏{‏تُبَوّئ المؤمنين‏}‏ تنزلهم‏.‏ أو تسوي وتهيئ لهم ويؤيده القراءة باللام‏.‏ ‏{‏مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ‏}‏ مواقف وأماكن له، وقد يستعمل المقعد والمقام بمعنى المكان على الاتساع كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ‏}‏ ‏{‏والله سَمِيعٌ‏}‏ لأقوالكم‏.‏ ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بنياتكم روي ‏(‏أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء ثاني عشر شوال سنة ثلاث من الهجرة فاستشار الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه، وقد دعا عبد الله بن أبي بن سلول ولم يدعه قبل فقال هو وأكثر الأنصار‏:‏ أقم يا رسول الله بالمدينة ولا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه فكيف وأنت فينا‏؟‏ فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال ورماهم النساء والصبيان بالحجارة، وإن رجعوا رجعوا خائبين‏.‏ وأشار بعضهم إلى الخروج فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «رأيت في منامي بقرة مذبوحة حولي فأولتها خيراً، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً فأولته هزيمة، ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم» فقال رجال فاتتهم بدر وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد اخرج بنا إلى أعدائنا‏.‏ وبالغوا حتى دخل ولبس لامته، فلما رأوا ذلك ندموا على مبالغتهم وقالوا‏:‏ اصنع يا رسول الله ما رأيت فقال «لا ينبغي لنبي أن يلبس لامته فيضعها حتى يقاتل» فخرج بعد صلاة الجمعة وأصبح بشعب أُحُد يوم السبت، ونزل في عدوة الوادي وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وسوى صفهم، وَأَمَّر عبد الله بن جبير على الرماة وقال‏:‏ انضحوا عنا بالنبل لا يأتونا من ورائنا‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏122‏]‏

‏{‏إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏122‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ هَمَّتْ‏}‏ متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏ أو بدل من إذ غدوت‏.‏ ‏{‏طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ‏}‏ بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس وكانا جناحي العسكر‏.‏ ‏{‏أَن تَفْشَلاَ‏}‏ أن تجبنا وتضعفا‏.‏ روي «أنه عليه الصلاة والسلام خرج في زهاء ألف رجل ووعد لهم النصر إن صبروا، فلما بلغوا الشوط انخذل ابن أبي في ثلاثمائة رجل وقال‏:‏ علام نقتل أنفسنا وأولادنا، فتبعهم عمرو بن حزم الأنصاري وقال‏:‏ أنشدكم الله والإِسلام في نبيكم وأنفسكم‏.‏ فقال‏:‏ ابن أبي لو نعلم قتالاً لاتبعناكم، فهم الحيان باتباعه فعصمهم الله فمضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم» والظاهر أنها ما كانت عزيمة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله وَلِيُّهُمَا‏}‏ أي عاصمهما من اتباع تلك الخطرة، ويجوز أن يراد والله ناصرهما فما لهما يفشلان ولا يتوكلان على الله‏.‏ ‏{‏وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون‏}‏ أي فليتوكلوا عليه ولا يتوكلوا على غيره لينصرهم كما نصرهم ببدر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏123- 132‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏123‏)‏ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ ‏(‏124‏)‏ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ‏(‏125‏)‏ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏126‏)‏ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ ‏(‏127‏)‏ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏128‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏129‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏130‏)‏ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ‏(‏131‏)‏ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏132‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ‏}‏ تذكير ببعض ما أفادهم التوكل‏.‏ وبدر ماء بين مكة والمدينة كان لرجل يسمى بدراً فسمي به‏.‏ ‏{‏وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ‏}‏ حال من الضمير، وإنما قال أذلة ولم يقل ذلائل تنبيهاً على قلتهم مع ذلتهم لضعف الحال وقلة المراكب والسلاح‏.‏ ‏{‏فاتقوا الله‏}‏ في الثبات‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ بتقواكم ما أنعم به عليكم من نصره، أو لعلكم بنعم الله عليكم فتشكرون، فوضع الشكر موضع الأنعام لأنه سببه‏.‏

‏{‏إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ظرف لنصركم‏.‏ وقيل بدل ثان من إذ غدوت على أن قوله لهم يوم أحد وكان مع اشتراط الصبر والتقوى عن المخالفة، فلما لم يصبروا عن الغنائم وخالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لم تنزل الملائكة‏.‏ ‏{‏أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءَالاَفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ‏}‏ إنكار أن لا يكفيهم، ذلك وإنما جيء بلن إشعاراً بأنهم كانوا كالآيسين من النصر لضعفهم وقلتهم وقوة العدو وكثرتهم‏.‏ قيل أمدهم الله يوم بدر أولاً بألف من الملائكة ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسة آلاف‏.‏ وقرأ ابن عامر ‏{‏مُنزَلِينَ‏}‏ بالتشديد للتكثير أو للتدريج‏.‏

‏{‏بلى‏}‏ إيجاب لما بعد لن، أي بلى يكفيكم‏.‏ ثم وعد لهم الزيادة على الصبر والتقوى حثاً عليهما وتقوية لقلوبهم فقال‏:‏ ‏{‏إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ‏}‏ أي المشركون‏.‏ ‏{‏مّن فَوْرِهِمْ هذا‏}‏ من ساعتهم هذه، وهو في الأصل مصدر من فارت القدر إذ غلت، فاستعير للسرعة ثم أطلق للحال التي لا ريث فيها ولا تراخي، والمعنى إن يأتوكم في الحال‏.‏ ‏{‏يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءَالافٍ مّنَ الملئكة‏}‏ في حال إتيانهم بلا تراخ ولا تأخير‏.‏ ‏{‏مُسَوّمِينَ‏}‏ معلمين من التسويم الذي هو إظهار سيما الشيء لقوله عليه الصلاة والسلام لأصحابه‏.‏ «تسوموا فإن الملائكة قد تسومت» أو مرسلين من التسويم بمعنى الأسامة‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم ويعقوب بكسر الواو‏.‏

‏{‏وَمَا جَعَلَهُ الله‏}‏ وما جعل إمدادكم بالملائكة‏.‏ ‏{‏إِلاَّ بشرى لَكُمْ‏}‏ إلا بشارة لكم بالنصر‏.‏ ‏{‏وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ‏}‏ ولتسكن إليه من الخوف‏.‏ ‏{‏وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله‏}‏ لا من العدة والعدد، وهو تنبيه على أنه لا حاجة في نصرهم إلى مدد وإنما أمدهم ووعد لهم به إشارة لهم وربطاً على قلوبهم، من حيث إن نظر العامة إلى الأسباب أكثر وحثاً على أن لا يبالوا بمن تأخر عنهم‏.‏ ‏{‏العزيز‏}‏ الذي لا يغالب في أقضيته‏.‏ ‏{‏الحكيم‏}‏ الذي ينصر ويخذل بوسط وبغير وسط على مقتضى الحكمة والمصلحة‏.‏

‏{‏لِيَقْطَعَ طَرَفاً مّنَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ متعلق بنصركم، أو ‏{‏وَمَا النصر‏}‏ إن كان اللام فيه للعهد، والمعنى لينقص منهم بقتل بعض وأسر آخرين، وهو ما كان يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين من صناديدهم‏.‏

‏{‏أَوْ يَكْبِتَهُمْ‏}‏ أو يخزيهم، والكبت شدة الغيظ، أو وهن يقع في القلب، وأو للتنويع دون الترديد ‏{‏فَيَنقَلِبُواْ خَائِبِينَ‏}‏ فينهزموا منقطعي الأمال‏.‏

‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْء‏}‏ اعتراض‏.‏ ‏{‏أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ‏}‏ عطف على قوله أو يكبتهم، والمعنى أن الله مالك أمرهم فإما أن يهلكهم أو يكبتهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا وليس لك من أمرهم شيء، وإنما أنت عبد مأمور لإِنذارهم وجهادهم‏.‏ ويحتمل أن يكون معطوفاً على الأمر أو شيء بإضمار أن، أي ليس لك من أمرهم أو من التوبة عليهم أو من تعذيبهم شيء‏.‏ أو ليس لك من أمرهم شيء، أو التوبة عليهم أو تعذيبهم‏.‏ وأن تكون أو بمعنى إلا أن‏.‏ أي ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتسر به أو يعذبهم فتشفي منهم‏.‏ روي ‏(‏أن عتبة بن أبي وقاص شجهُ يوم أحد وكسر رباعيته، فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول ‏"‏ كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم ‏"‏ فنزلت‏.‏ وقيل هم أن يدعوا عليهم فنهاه الله لعلمه بأن فيهم من يؤمن‏.‏ ‏{‏فَإِنَّهُمْ ظالمون‏}‏ قد استحقوا التعذيب بظلمهم‏.‏

‏{‏وَللَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض‏}‏ خلقاً وملكاً فله الأمر كله لا لك‏.‏ ‏{‏يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء‏}‏ صريح في نفي وجوب التعذيب، والتقييد بالتوبة وعدمها كالمنافي له‏.‏ ‏{‏والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ لعباده فلا تبادر إلى الدعاء عليهم‏.‏

‏{‏يا أيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أضعافا مضاعفة‏}‏ لا تزيدوا زيادات مكررة، ولعل التخصيص بحسب الواقع‏.‏ إذ كان الرجل منهم يربي إلى أجل ثم يزيد فيه زيادة أخرى حتى يستغرق بالشيء الطفيف مال المديون‏.‏ وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب «مضعفة»‏.‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ فيما نهيتم عنه‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ راجين الفلاح‏.‏

‏{‏واتقوا النار التي أُعِدَّتْ للكافرين‏}‏ بالتحرز عن متابعتهم وتعاطي أفعالهم، وفيه تنبيه على أن النار بالذات معدة للكافرين وبالعرض للعصاة‏.‏ ‏{‏وَأَطِيعُواْ الله والرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ أتبع الوعيد بالوعد ترهيباً عن المخالفة وترغيباً في الطاعة، ولعل وعسى في أمثال ذلك دليل عزة التوصل إلى ما جعل خبراً له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏133‏]‏

‏{‏وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏133‏)‏‏}‏

‏{‏وَسَارِعُواْ‏}‏ بادروا وأقبلوا‏.‏ ‏{‏إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ‏}‏ إلى ما يستحق به المغفرة، كالإِسلام والتوبة والإِخلاص‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر سارعوا بلا واو‏.‏ ‏{‏وَجَنَّةٍ عرضهالسموات والأرض‏}‏ أي عرضها كعرضهما، وذكر العرض للمبالغة في وصفها بالسعة على طريقة التمثيل، لأنه دون الطول‏.‏ وعن ابن عباس كسبع سموات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض، ‏{‏أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ هيئت لهم، وفيه دليل على أن الجنة مخلوقة وإنها خارجة عن هذا العالم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏134‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏134‏)‏‏}‏

‏{‏الذين يُنفِقُونَ‏}‏ صفة مادحة للمتقين، أو مدح منصوب أو مرفوع‏.‏ ‏{‏فِي السَّرَّاء والضراء‏}‏ في حالتي الرخاء والشدة، أو الأحوال كلها إذ الإِنسان لا يخلو عن مسرة أو مضرة، أي لا يخلون في حال ما بإنفاق ما قدروا عليه من قليل أو كثير، ‏{‏والكاظمين الغيظ‏}‏ الممسكين عليه الكافين عن إمضائه مع القدرة، من كظمت القربة إذا ملأتها وشددت رأسها‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم «من كظم غيظاً وهو يقدر على إنقاذه ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً» ‏{‏والعافين عَنِ الناس‏}‏ التاركين عقوبة من استحقوا مؤاخذته، وعن النبي عليه الصلاة والسلام «إن هؤلاء في أمتي قليل إلا من عصم الله» وقد كانوا كثيراً في الأمم التي مضت‏.‏ ‏{‏والله يُحِبُّ المحسنين‏}‏ يحتمل الجنس ويدخل تحته هؤلاء، والعهد فتكون الإِشارة إليهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏135‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏135‏)‏‏}‏

‏{‏والذين إِذَا فَعَلُواْ فاحشة‏}‏ فعلة بالغة في القبح كالزنى‏.‏ ‏{‏أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ‏}‏ بأن أذنبوا أي ذنب كان وقيل الفاحشة الكبيرة وظلم النفس الصغيرة، ولعل الفاحشة ما يتعدى وظلم النفس ما ليس كذلك‏.‏ ‏{‏ذَكَرُواْ الله‏}‏ تذكروا وعيده أو حكمه أو حقه العظيم‏.‏ ‏{‏فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ‏}‏ بالندم والتوبة‏.‏ ‏{‏وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله‏}‏ استفهام بمعنى النفي معترض بين المعطوفين، والمراد به وصفه تعالى بسعة الرحمة وعموم المغفرة والحث على الاستغفار والوعد بقبول التوبة ‏{‏وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ‏}‏ ولم يقيموا على ذنوبهم غير مستغفرين لقوله صلى الله عليه وسلم «ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة» ‏{‏وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ حال من يصروا أي ولم يصروا على قبيح فعلهم عالمين به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏136‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ‏(‏136‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك جَزَاؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ وجنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا‏}‏ خبر للذين إن ابتدأت به، وجملة مستأنفة مبينة لما قبلها إن عطفته على المتقين، أو على الذين ينفقون‏.‏ ولا يلزم من إعداد الجنة للمتقين والتائبين جزاء لهم إن لا يدخلها المصرون، كما لا يلزم من إعداد النار للكافرين جزاء لهم أن لا يدخلها غيرهم، وتنكير جنات على الأول يدل على أن ما هم أدون مما للمتقين الموصوفين بتلك الصفات المذكورة في الآية المتقدمة، وكفاك فارقاً بين القبيلين أنه فصل آيتهم بأن بين أنهم محسنون مستوجبون لمحبة الله، وذلك لأنهم حافظوا على حدود الشرع وتخطوا إلى التخصص بمكارمه، وفصل آية هؤلاء بقوله‏:‏ ‏{‏وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين‏}‏ لأن المتدارك لتقصيره كالعامل لتحصيل بعض ما فوت على نفسه، وكم بين المحسن والمتدارك والمحبوب والأجير، ولعل تبديل لفظ الجزاء بالأجر لهذه النكتة، والمخصوص بالمدح محذوف تقديره ونعم أجر العاملين ذلك يعني المغفرة والجنات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏137- 146‏]‏

‏{‏قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏137‏)‏ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏138‏)‏ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏139‏)‏ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ‏(‏140‏)‏ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ‏(‏141‏)‏ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ‏(‏142‏)‏ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ‏(‏143‏)‏ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ‏(‏144‏)‏ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ‏(‏145‏)‏ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ‏(‏146‏)‏‏}‏

‏{‏قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ‏}‏ وقائع سنها الله في الأمم المكذبة كقوله تعالى؛ ‏{‏وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ‏}‏ وقيل أمم قال‏:‏

مَا عَايَنَ النَّاسُ مِنْ فَضْلٍ كَفَضْلِكُمُو *** وَلاَ رَأَوْا مِثْلَهُ في سَالِفِ السُّنَنِ

‏{‏فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين‏}‏ لتعتبروا بما ترون من آثار هلاكهم‏.‏

‏{‏هذا بَيَانٌ لّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لّلْمُتَّقِينَ‏}‏ إشارة إلى قولهِ ‏{‏قَدْ خَلَتْ‏}‏، أو مفهوم قوله ‏{‏فانظروا‏}‏ أي أنه مع كونه بياناً للمكذبين فهو زيادة بصيرة وموعظة للمتقين، أو إلى ما لخص من أمر المتقين والتائبين، وقوله قد خلت جملة معترضة للحث على الإِيمان والتوبة وقيل إلى القرآن‏.‏

‏{‏وَلاَ تَهِنُوا وَلاَتَحْزَنُوا‏}‏ تسلية لهم عما أصابهم يوم أحد، والمعنى لا تضعفوا عن الجهاد بما أصابكم ولا تحزنوا على من قتل منكم‏.‏ ‏{‏وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ‏}‏ وحالكم إنكم أعلى منهم شأناً، فإنكم على الحق وقتالكم لله وقتلاكم في الجنة، وإنهم على الباطل وقتالهم للشيطان وقتلاهم في النار، أو لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم اليوم، أو وأنتم الأعلون في العاقبة فيكون بشارة لهم بالنصر والغلبة‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ متعلق بالنهي أي لا تهنوا إن صح إيمانكم، فإنه يقتضي قوة القلب بالوثوق على الله أو بالأعلون‏.‏

‏{‏إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مّثْلُهُ‏}‏ قرأ حمزة والكسائي وابن عياش عن عاصم بضم القاف، والباقون بالفتح وهما لغتان كالضعف والضعف‏.‏ وقيل هو بالفتح الجراح وبالضم ألمها، والمعنى إن أصابوا منكم يوم أحد فقد أصبتم منهم يوم بدر مثله، ثم إنهم لم يضعفوا ولم يجبنوا فأنتم أولى بأن لا تضعفوا، فإنكم ترجون من الله ما لا يرجون‏.‏ وقيل كلا المِسينَّ كان يوم أحد فإن المسلمين نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس‏}‏ نصرفها بينهم تدليل لهؤلاء تارة ولهؤلاء أخرى كقوله‏:‏

فَيَوْماً عَلَيْنَا وَيَوماً لَنَا *** وَيَوْمٌ نُسَاءُ وَيَوْمٌ نُسَرُّ

والمداولة كالمعاودة يقال داولت الشيء بينهم فتداولوه، والأيام تحتمل الوصف والخبر و‏{‏نُدَاوِلُهَا‏}‏ يحتمل الخبر والحال والمراد بها‏:‏ أوقات النصر والغلبة‏.‏ ‏{‏وَلِيَعْلَمَ الله الذين ءَامَنُواْ‏}‏ عطف على علة محذوفة أي نداولها ليكون كيت وكيت وليعلم الله إيذاناً بأن العلة فيه غير واحدة، وإن ما يصيب المؤمن فيه من المصالح ما لا يعلم، أو الفعل المعلل به محذوف تقديره وليتميز الثابتون على الإِيمان من الذين على حرف فعلنا ذلك، والقصد في أمثاله ونقائضه ليس إلى إثبات علمه تعالى ونفيه بل إلى إثبات المعلوم ونفيه على طريق البرهان‏.‏ وقيل معناه ليعلمهم علماً يتعلق به الجزاء وهو العلم بالشيء موجوداً‏.‏

‏{‏وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء‏}‏ ويكرم ناساً منكم بالشهادة يريد شهداء أحد، أو يتخذ منكم شهوداً معدلين بما صودف منهم من الثبات والصبر على الشدائد‏.‏ ‏{‏والله لاَ يُحِبُّ الظالمين‏}‏ الذين يضمرون خلاف ما يظهرون، أو الكافرين وهو اعتراض، وفيه تنبيه على أنه تعالى لا ينصر الكافرين على الحقيقة وإنما يغلبهم أحياناً استدراجاً لهم وابتلاء للمؤمنين‏.‏

‏{‏وَلِيُمَحّصَ الله الذين ءَامَنُواْ‏}‏ ليطهرهم ويصفيهم من الذنوب إن كانت الدولة عليهم‏.‏ ‏{‏وَيَمْحَقَ الكافرين‏}‏ ويهلكهم إن كانت عليهم، والمحق نقص الشيء قليلاً قليلاً‏.‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة‏}‏ بل أحسبتم ومعناه الإِنكار‏.‏ ‏{‏وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ‏}‏ ولما تجاهدوا، وفيه دليل على أن الجهاد فرض كفاية والفرق بين ‏{‏لَّمّاً‏}‏ ولم إن فيه توقع الفعل فيما يستقبل‏.‏ وقرئ ‏{‏يَعْلَمْ‏}‏ بفتح الميم على أن أصله يعلمن فحذفت النون ‏{‏وَيَعْلَمَ الصابرين‏}‏ نصب بإضمار أن على أن الواو للجمع‏.‏ وقرئ بالرفع على أن الواو للحال كأنه قال‏:‏ ولما تجاهدوا وأنتم صابرون ‏{‏وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت‏}‏ أي الحرب فإنها من أسباب الموت، أو الموت بالشهادة‏.‏ والخطاب للذين لم يشهدوا بدراً وتمنوا أن يشهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهداً لينالوا ما نال شهداء بدر من الكرامة فألحوا يوم أحد على الخروج‏.‏ ‏{‏مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ‏}‏ من قبل أن تشاهدوه وتعرفوا شدته‏.‏ ‏{‏فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ‏}‏ أي فقد رأيتموه معاينين له حين قتل دونكم من قتل من إخوانكم، وهو توبيخ لهم على أنهم تمنوا الحرب وتسببوا لها ثم جبنوا وانهزموا عنها، أو على تمني الشهادة فإن في تمنيها تمني غلبة الكفار‏.‏

‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل‏}‏ فسيخلوا كما خلوا بالموت أو القتل‏.‏ ‏{‏أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ‏}‏ إِنكاراً لارتدادهم وانقلابهم على أعقابهم عن الدين لخلوه بموت أو قتل بعد علمهم بخلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكاً به‏.‏ وقيل الفاء للسببية والهمزة لإِنكار أن يجعلوا خلو الرسل قبله سبباً لانقلابهم على أعقابهم بعد وفاته‏.‏ روي «أنه لما رمى عبدُ الله بن قميئة الحارثي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر رباعيته وشج وجهه، فذب عنه مصعب بن عمير رضي الله عنه وكان صاحب الراية حتى قتله ابن قميئة وهو يرى أنه قتل النبي عليه الصلاة والسلام فقال‏:‏ قد قتلت محمداً وصرخ صارخ ألا إن محمداً قد قتل، فانكفأ الناس وجعل الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو إليَّ عباد الله فانحاز إليه ثلاثون من أصحابه وحموه حتى كشفوا عنه المشركين وتفرق الباقون، وقال بعضهم‏:‏ ليت ابن أبي يأخذ لنا أماناً من أبي سفيان، وقال ناس من المنافقين لو كان نبياً لما قتل ارجعوا إلى إخوانكم ودينكم فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك رضي الله عنهما‏:‏ يا قوم إن كان قتل محمد فإن رب محمد حي لا يموت وما تصنعون بالحياة بعده فقاتلوا على ما قاتل عليه، ثم قال اللهم إني أعتذر إليك مما يقولون وأبرأ إليك منه وشد بسيفه فقاتل حتى قتل»

فنزلت‏.‏ ‏{‏وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً‏}‏ بارتداده بل يضر نفسه‏.‏ ‏{‏وَسَيَجْزِي الله الشاكرين‏}‏ على نعمة الإِسلام بالثبات عليه كأنس وأضرابه‏.‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله‏}‏ إلا بمشيئة الله تعالى أو بإذنه لملك الموت عليه الصلاة والسلام في قبض روحه، والمعنى أن لكل نفس أجلاً مسمى في علمه تعالى وقضائه ‏{‏لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ‏}‏ بالإِحجام عن القتال والإِقدام عليه‏.‏ وفيه تحريض وتشجيع على القتال، ووعد للرسول صلى الله عليه وسلم بالحفظ وتأخير الأجل‏.‏ ‏{‏كتابا‏}‏ مصدر مؤكد إذ المعنى كتب الموت كتاباً‏.‏ ‏{‏مُّؤَجَّلاً‏}‏ صفة له أي مؤقتاً لا يتقدم ولا يتأخر‏.‏ ‏{‏وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا‏}‏ تعريض لمن شغلتهم الغنائم يوم أحد، فإن المسلمين حملوا على المشركين وهزموهم وأخذوا ينهبون، فلما رأى الرماة ذلك أقبلوا على النهب وخلوا مكانهم فانتهز المشركون وحملوا عليهم من ورائهم فهزموهم‏.‏ ‏{‏وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا‏}‏ أي من ثوابها‏.‏ ‏{‏وَسَنَجْزي الشَّاكرِينَ الذين شكروا نعمة الله فلم يشغلهم شيء عن الجهاد‏.‏

‏{‏وَكَأَيِّن‏}‏ أصله أي دخلت الكاف عليها وصارت بمعنى كم والنون تنوين أثبت في الخط على غير قياس‏.‏ وقرأ ابن كثير «وكائن» ككاعن ووجهه أنه قلب قلب الكلمة الواحدة كقولهم وعملي في لعمري، فصار كأين ثم حذفت الياء الثانية للتخفيف ثم أبدلت الياء الأخرى ألفاً كما أبدلت من طائي ‏{‏مّن نَّبِيٍّ‏}‏ بيان له‏.‏ ‏{‏قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيُّونَ كَثِيرٌ‏}‏ ربانيون علماء أتقياء، أو عابدون لربهم‏.‏ وقيل جماعات والربى منسوب إلى الربة وهي الجماعة للمبالغة‏.‏ وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب «قتل»، وإسناده إلى ‏{‏رِبّيُّونَ‏}‏ أو ضمير النبي ومعه ربيون حال منه ويؤيد الأول أنه قرئ بالتشديد وقرئ ‏{‏رِبّيُّونَ‏}‏ بالفتح على الأصل وبالضم وهو من تغييرات النسب كالكسر‏.‏ ‏{‏فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله‏}‏ فما فتروا ولم ينكسر جدهم لما أصابهم من قتل النبي أو بعضهم‏.‏ ‏{‏وَمَا ضَعُفُواْ‏}‏ عن العدو أو في الدين‏.‏ ‏{‏وَمَا استكانوا‏}‏ وما خضعوا للعدو، وأصله استكن من السكون لأن الخاضع يسكن لصاحبه ليفعل به ما يريده، والألف من إشباع الفتحة أو استكون من الكون لأنه يطلب من نفسه أن يكون لمن يخضع له، وهذا تعريف بما أصابهم عند الإِرجاف بقتله عليه الصلاة والسلام‏.‏ ‏{‏والله يُحِبُّ الصَّابِرِينَ فينصرهم ويعظم قدرهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏147‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏147‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وانصرنا عَلَى القوم الكافرين‏}‏ أي وما كان قولهم مع ثباتهم وقوتهم في الدين وكونهم ربانيين إلا هذا القول، وهو إضافة الذنوب والإِسراف إلى أنفسهم هضماً لها وإضافة لما أصابهم إلى سوء أعمالها والاستغفار عنها، ثم طلب التثبيت في مواطن الحرب والنصر على العدو ليكون عن خضوع وطهارة، فيكون أقرب إلى الإجابة، وإنما جعل قولهم خيراً لأن أن قالوا أعرف لدلالته على جهة النسبة وزمان الحدث‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏148‏]‏

‏{‏فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏148‏)‏‏}‏

‏{‏فآتاهم الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة والله يُحِبُّ المحسنين‏}‏ فأتاهم الله بسبب الاستغفار واللجأ إلى الله النصر والغنيمة والعز وحسن الذكر في الدنيا، والجنة والنعيم في الآخرة، وخص ثوابها بالحسن إشعاراً بفضله وأنه المعتد به عند الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏149‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ‏(‏149‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها الذين ءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ‏}‏ أي إلى الكفر‏.‏ ‏{‏على أعقابكم فَتَنقَلِبُواْ خاسرين‏}‏ نزلت في قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمة‏:‏ ارجعوا إلى دينكم وإخوانكم ولو كان محمد نبياً لما قتل‏.‏ وقيل أن تستكينوا لأبي سفيان وأشياعه وتستأمنوهم يردوكم إلى دينهم‏.‏ وقيل عام في مطاوعة الكفرة والنزول على حكمهم فإنه يستجر إلى موافقتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏150‏]‏

‏{‏بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ‏(‏150‏)‏‏}‏

‏{‏بَلِ الله مولاكم‏}‏ ناصركم‏.‏ وقرئ بالنصب على تقدير بل أطيعوا الله مولاكم‏.‏ ‏{‏وَهُوَ خَيْرُ الناصرين‏}‏ فاستغنوا به عن ولاية غيره ونصره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏151‏]‏

‏{‏سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ‏(‏151‏)‏‏}‏

‏{‏سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب‏}‏ يريد ما قذف في قلوبهم من الخوف يوم أحد حتى تركوا القتال ورجعوا من غير سبب، ونادى أبو سفيان يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إن شاء الله» وقيل لما رجعوا وكانوا ببعض الطريق ندموا وعزموا أن يعودوا عليهم ليستأصلوهم، فألقى الله الرعب في قلوبهم‏.‏ وقرأ ابن عامر والكسائي ويعقوب بالضم على الأصل في كل القرآن ‏{‏بِمَا أَشْرَكُواْ بالله‏}‏ بسبب إشراكهم به‏.‏ ‏{‏مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا‏}‏ أي آلهة ليس على إشراكها حجة ولم ينزل عليهم به سلطاناً وهو كقوله‏:‏

وَلاَ تَرَى الضُّبَّ بِهَا يَنْجَحرُ *** وأصل السلطنة القوة ومنه السليط لقوة اشتعاله والسلاطة لحدة اللسان‏.‏ ‏{‏وَمَأْوَاهُمُ النار وَبِئْسَ مثوى الظالمين‏}‏ أي مثواهم، فوضع الظاهر موضع المضمر للتغليظ والتعليل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏152‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏152‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ‏}‏ أي وعده إياكم بالنصر بشرط التقوى والصبر، وكان كذلك حتى خالف الرماة فإن المشركين لما أقبلوا جعل الرماة يرشقونهم بالنبل والباقون يضربونهم بالسيف حتى انهزموا والمسلمون على آثارهم‏.‏ ‏{‏إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ‏}‏ تقتلونهم، من حسه إذا أبطل حسه‏.‏ ‏{‏حتى إِذَا فَشِلْتُمْ‏}‏ جبنتم وضعف رأيكم، أو ملتم إلى الغنيمة فإن الحرص من ضعف العقل‏.‏ ‏{‏وتنازعتم فِي الأمر‏}‏ يعني اختلاف الرماة حين انهزم المشركون فقال بعضهم فما موقفنا ها هنا، وقال آخرون لا نخالف أمر الرسول فثبت مكانه أميرهم في نفر دون العشرة ونفر الباقون للنهب وهو المعني بقوله‏:‏ ‏{‏وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ‏}‏ من الظفر والغنيمة وانهزام العدو، وجواب إذا محذوف وهو امتحنكم، ‏{‏مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا‏}‏ وهم التاركون المركز للغنيمة‏.‏ ‏{‏وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة‏}‏ وهم الثابتون محافظة على أمر الرسول عليه السلام‏.‏ ‏{‏ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ‏}‏ ثم كفكم عنهم حتى حالت الحال فغلبوكم‏.‏ ‏{‏لِيَبْتَلِيَكُمْ‏}‏ على المصائب ويمتحن ثباتكم على الإِيمان عندها‏.‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ‏}‏ تفضلاً ولما علم من ندمكم على المخالفة‏.‏ ‏{‏والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين‏}‏ يتفضل عليهم بالعفو، أو في الأحوال كلها سواء أديل لهم أو عليهم إذ الابتلاء أيضاً رحمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏153‏]‏

‏{‏إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏153‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ تُصْعِدُونَ‏}‏ متعلق بصرفكم، أو ليبتليكم أو بمقدر كاذكروا‏.‏ والإِصعاد الذهاب والإِبعاد في الأرض يقال‏:‏ أصعدنا من مكة إلى المدينة‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ‏}‏ لا يقف أحد لأحد ولا ينتظره‏.‏ ‏{‏والرسول يَدْعُوكُمْ‏}‏ كان يقول إليَّ عباد الله أنا رسول الله من يكر فله الجنة‏.‏ ‏{‏فِي أُخْرَاكُمْ‏}‏ في ساقتكم أو جماعتكم الأخرى ‏{‏فأثابكم غَمّاً بِغَمّ‏}‏ عطف على صرفكم، والمعنى فجازاكم الله عن فشلكم وعصيانكم غماً متصلاً بغم، من الاغتمام بالقتل والجرح وظفر المشركين والإِرجاف بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، أو فجازاكم غماً بسبب غم أذقتموه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعصيانكم له‏.‏ ‏{‏لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أصابكم‏}‏ لتتمرنوا على الصبر في الشدائد فلا تحزنوا فيما بعد على نفع فائت ولا ضر لاحق‏.‏ وقيل ‏{‏لا‏}‏ مزيدة والمعنى لتأسفوا على ما فاتكم من الظفر والغنيمة وعلى ما أصابكم من الجرح والهزيمة عقوبة لكم‏.‏ وقيل الضمير في فأثابكم للرسول صلى الله عليه وسلم أي فآساكم في الاغتمام فاغتم بما نزل عليكم، كما اغتممتم بما نزل عليه ولم يثر بكم على عصيانكم تسلية لكم كيلا تحزنوا على ما فاتكم من النصر ولا على ما أصابكم من الهزيمة ‏{‏والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ عليم بأعمالكم وبما قصدتم بها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏154‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏154‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً‏}‏ أنزل الله عليكم الأمن حتى أخذكم النعاس، وعن أبي طلحة غشينا النعاس في المصاف حتى كان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه، ثم يسقط فيأخذه‏.‏ والأمنة الأمن نصب على المفعول ونعاساً بدل منها أو هو المفعول، و‏{‏أَمَنَةً‏}‏ حال منه متقدمة أو مفعول له أو حال من المخاطبين بمعنى ذوي أمنة أو على أنه جمع آمن كبار وبررة‏.‏ وقرئ ‏{‏أَمَنَةً‏}‏ بسكون الميم كأنها المرة في الإمر ‏{‏يغشى طَائِفَةً مّنْكُمْ‏}‏ أي النعاس وقرأ حمزة والكسائي بالتاء ردا على الأمنة والطائفة المؤمنون حقاً‏.‏ ‏{‏وَطَائِفَةٌ‏}‏ هم المنافقون‏.‏ ‏{‏قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ‏}‏ أوقعتهم أنفسهم في الهموم، أو ما يهمهم إلا هم أنفسهم وطلب خلاصها‏.‏ ‏{‏يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق ظَنَّ الجاهلية‏}‏ صفة أخرى لطائفة أو حال أو استئناف على وجه البيان لما قبله، وغير الحق نصب على المصدر أي‏:‏ يظنون بالله غير الظن الحق الذي يحق أن يظن به، و‏{‏ظَنَّ الجاهلية‏}‏ بدله وهو الظن المختص بالملة الجاهلية وأهلها‏.‏ ‏{‏يَقُولُونَ‏}‏ أي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بدل من يظنون‏.‏ ‏{‏هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْء‏}‏ هل لنا مما أمر الله ووعد من النصر والظفر نصيب قط‏.‏ وقيل‏:‏ أخبر ابن أبي بقتل بني الخزرج فقال ذلك، والمعنى إنا منعنا تدبير أنفسنا وتصريفها باختيارنا، فلم يبق لنا من الأمر شيء أو هل يزول عنا هذا القهر فيكون لنا من الأمر شيء ‏{‏قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ‏}‏ أي الغلبة الحقيقية لله تعالى ولأوليائه فإن حزب الله هم الغالبون، أو القضاء له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وهو اعتراض‏.‏ وقرأ أبو عمرو ويعقوب كله بالرفع على الابتداء‏.‏ ‏{‏يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ‏}‏ حال من الضمير يقولون أي يقولون مظهرين إنهم مسترشدون طالبون النصر مبطلين الإِنكار والتكذيب‏.‏ ‏{‏يَقُولُونَ‏}‏ أي في أنفسهم وإذا خلا بعضهم إلى بعض، وهو بدل من يخفون أو استئناف على وجه البيان له‏.‏ ‏{‏لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْء‏}‏ كما وعد محمد أو زعم أن الأمر كله لله ولأوليائه، أو لو كان لنا اختيار وتدبير ولم نبرح كما كان ابن أبي وغيره‏.‏ ‏{‏مَّا قُتِلْنَا هاهنا‏}‏ لما غلبنا، أو لما قتل من قتل منا في هذه المعركة‏.‏ ‏{‏قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ‏}‏ أي لخرج الذين قدر الله عليهم القتل وكتبه في اللوح المحفوظ إلى مصارعهم ولم تنفعهم الإِقامة بالمدينة ولم ينج منهم أحد، فإنه قدر الأمور ودبرها في سابق قضائه لا معقب لحكمه‏.‏ ‏{‏وَلِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ‏}‏ وليمتحن ما في صدوركم ويظهر سرائرها من الإِخلاص والنفاق، وهو علة فعل محذوف أي وفعل ذلك ليبتلي أو عطف على محذوف أي لبرز لنفاذ القضاء أو لمصالح جمة وللابتلاء، أو على لكيلا تحزنوا‏.‏ ‏{‏وَلِيُمَحّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ‏}‏ وليكشفه ويميزه أو يخلصه من الوساوس‏.‏ ‏{‏والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور‏}‏ بخفياتها قبل إظهارها، وفيه وعد ووعيد وتنبيه على أنه غني عن الابتلاء وإنما فعل ذلك لتمرين المؤمنين وإظهار حال المنافقين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏155- 155‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏155‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ‏}‏ يعني إن الذين انهزموا يوم أحد إنما كان السبب في انهزامهم أن الشيطان طلب منهم الزلل فأطاعوه واقترفوا ذنوباً لمخالفة النبي صلى الله عليه وسلم بترك المركز، والحرص على الغنيمة أو الحياة فمنعوا التأييد وقوة القلب‏.‏ وقيل استزلال الشيطان توليهم وذلك بسبب ذنوب تقدمت لهم فإن المعاصي يجر بعضها بعضاً كالطاعة‏.‏ وقيل استزلهم بذكر ذنوب سلفت منهم فكرهوا القتال قبل إخلاص التوبة والخروج من المظلمة‏.‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ‏}‏ لتوبتهم واعتذارهم‏.‏ ‏{‏أَنَّ الله غَفُورٌ‏}‏ للذنوب ‏{‏حَلِيمٌ‏}‏ لا يعاجل بعقوبة الذنب كي يتوب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏156‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏156‏)‏‏}‏

‏{‏يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ‏}‏ يعني المنافقين‏.‏ ‏{‏وَقَالُواْ لإخوانهم‏}‏ لأجلهم وفيهم، ومعنى إخوتهم اتفاقهم في النسب أو المذهب ‏{‏إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض‏}‏ إذا سافروا فيها وأبعدوا للتجارة أو غيرها، وكان حقه إذ لقوله قالوا لكنه جاء على حكاية الحال الماضية ‏{‏أَوْ كَانُواْ غُزّىً‏}‏ جمع غاز كعاف وعفَّى‏.‏ ‏{‏لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ‏}‏ مفعول قالوا وهو يدل على إن إخوانهم لم يكونوا مخاطبين به‏.‏ ‏{‏لِيَجْعَلَ الله ذلك حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ‏}‏ متعلق ب ‏{‏قَالُواْ‏}‏ على إن اللام لام العاقبة مثلها في ليكون لهم عدواً وحزناً، أو لا تكونوا أي لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول والاعتقاد ليجعله حسرة في قلوبهم خاصة، فذلك إشارة إلى ما دل عليه قولهم من الاعتقاد‏.‏ وقيل إلى ما دل عليه النهي أي لا تكونوا مثلهم ليجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم، فإن مخالفتهم ومضادتهم مما يغمهم‏.‏ ‏{‏والله يُحْييِ وَيُمِيتُ‏}‏ رداً لقولهم أي هو المؤثر في الحياة والممات لا الإِقامة والسفر فإنه تعالى قد يحيي المسافر والغازي ويميت المقيم والقاعد‏.‏ ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ تهديد للمؤمنين على أن يماثلوهم‏.‏ وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء على أنه وعيد للذين كفروا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏157- 162‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ‏(‏157‏)‏ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏158‏)‏ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ‏(‏159‏)‏ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏160‏)‏ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏161‏)‏ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏162‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ‏}‏ أي متم في سبيله وقرأ نافع وحمزة والكسائي بكسر الميم من مات يمات‏.‏ ‏{‏لَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ بِمَا يَجْمَعُونَ‏}‏ جواب القسم وهو ساد مسد الجزاء والمعنى‏:‏ إن السفر والغزو ليس مما يجلب الموت ويقدم الأجل وإن وقع ذلك في سبيل الله فما تنالون من المغفرة والرحمة بالموت خير مما تجمعون من الدنيا ومنافعها لو لم تموتوا‏.‏ وقرأ حفص بالياء‏.‏

‏{‏وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ‏}‏ أي على أي وجه اتفق هلاككم‏.‏ ‏{‏لإِلَى الله تُحْشَرُونَ‏}‏ لإلى معبودكم الذي توجهتم إليه‏.‏ وبذلتم مهجكم لوجهه لا إلى غيره لا محالة تحشرون، فيوفي جزاءكم ويعظم ثوابكم‏.‏ وقرأ نافع وحمزة والكسائي ‏{‏مُّتُّمْ‏}‏ بالكسر‏.‏

‏{‏فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله لِنتَ لَهُمْ‏}‏ أي فبرحمة، وما مزيدة للتأكيد والتنبيه والدلالة على أن لينه لهم ما كان إلا برحمة من الله وهو ربطه على جأشه وتوفيقه للرفق بهم حتى اغتم لهم بعد أن خالفوه‏.‏ ‏{‏وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً‏}‏ سيئ الخلق جافياً‏.‏ ‏{‏غَلِيظَ القلب‏}‏ قاسيه‏.‏ ‏{‏لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ‏}‏ لتفرقوا عنك ولم يسكنوا إليك‏.‏ ‏{‏فاعف عَنْهُمْ‏}‏ فيما يختص بك‏.‏ ‏{‏واستغفر لَهُمُ‏}‏ فيما لله‏.‏ ‏{‏وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر‏}‏ أي في أمر الحرب إذ الكلام فيه، أو فيما يصح أن يشاور فيه استظهاراً برأيهم وتطييباً لنفوسهم وتمهيداً لسنة المشاورة للأمة‏.‏ ‏{‏فَإِذَا عَزَمْتَ‏}‏ فإذا وطنت نفسك على شيء بعد الشورى‏.‏ ‏{‏فَتَوَكَّلْ عَلَى الله‏}‏ في إمضاء أمرك على ما هو أصلح لك، فإنه لا يعلمه سواه‏.‏ وقرئ ‏{‏فَإِذَا عَزَمْتَ‏}‏، على التكلم أي فإذا عزمت لك على شيء وعينته لك فتوكل على الله ولا تشاور فيه أحداً‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين‏}‏ فينصرهم ويهديهم إلى الصلاح‏.‏

‏{‏إِن يَنصُرْكُمُ الله‏}‏ كما نصركم يوم بدر‏.‏ ‏{‏فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ‏}‏ فلا أحد يغلبكم‏.‏ ‏{‏وَإِن يَخْذُلْكُمْ‏}‏ كما خذلكم يوم أحد‏.‏ ‏{‏فَمَن ذَا الذي يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ‏}‏ من بعد خذلانه، أو من بعد الله بمعنى إذا جاوزتموه فلا ناصر لكم، وهذا تنبيه على المقتضى للتوكل وتحريض على ما يستحق به النصر من الله وتحذير عما يستجلب خذلانه‏.‏ ‏{‏وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون‏}‏ فليخصوه بالتوكل عليه لما علموا أن لا ناصر لهم سواه وآمنوا به‏.‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِنَبِيّ أَنْ يَغُلَّ‏}‏ وما صح لنبي أن يخون في الغنائم فإن النبوة تنافي الخيانة، يقال غل شيئاً من المغنم يغل غلولاً وأغل إغلالاً إذا أخذه في خفية والمراد منه‏:‏ إما براءة الرسول عليه السلام عما اتهم به إذ روي أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض المنافقين لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها، أو ظن به الرماة يوم أحد حين تركوا المركز للغنيمة وقالوا نخشى أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخذ شيئاً فهو له ولا يقسم الغنائم‏.‏

وإما المبالغة في النهي للرسول صلى الله عليه وسلم على ما روي أنه بعث طلائع، فغنم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسم على من معه ولم يقسم للطلائع فنزلت‏.‏ فيكون تسمية حرمان بعض المستحقين غلولاً تغليظاً ومبالغة ثانية‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب ‏{‏أَنْ يَغُلَّ‏}‏ على البناء للمفعول والمعنى‏:‏ وما صح له أن يوجد غالاً أو أن ينسب إلى الغلول‏.‏ ‏{‏وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة‏}‏ يأت بالذي غله يحمله على عنقه كما جاء في الحديث أو بما احتمل من وباله وإثمه‏.‏ ‏{‏ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ‏}‏ يعني تعطي جزاء ما كسبت وافياً، وكان اللائق بما قبله أن يقال ثم يوفى ما كسبت لكنه عمم الحكم ليكون كالبرهان على المقصود والمبالغة فيه، فإنه إذا كان كل كاسب مجزياً بعمله فالغال مع عظم جرمه بذلك أولى‏.‏ ‏{‏وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ فلا ينقص ثواب مطيعهم ولا يزاد في عقاب عاصيهم‏.‏

‏{‏أَفَمَنِ اتبع رضوان الله‏}‏ بالطاعة‏.‏ ‏{‏كَمَن بَاء‏}‏ رجع‏.‏ ‏{‏بِسَخْطٍ مّنَ الله‏}‏ بسبب المعاصي‏.‏ ‏{‏وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير‏}‏ الفرق بينه وبين المرجع إن المصير يجب أن يخالف الحالة الأولى ولا كذلك المرجع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏163- 163‏]‏

‏{‏هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‏(‏163‏)‏‏}‏

‏{‏هُمْ درجات عِندَ الله‏}‏ شبهوا بالدرجات لما بينهم من التفاوت في الثواب والعقاب، أو هم ذوو درجات‏.‏ ‏{‏والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ‏}‏ عالم بأعمالهم ودرجاتهم صادرة عنهم فيجازيهم على حسبها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏164- 164‏]‏

‏{‏لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏164‏)‏‏}‏

‏{‏لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين‏}‏ أنعم على من آمن مع الرسول صلى الله عليه وسلم من قومه وتخصيصهم مع أن نعمة البعثة عامة لزيادة انتفاعهم بها‏.‏ وقُرئ «لمن من الله» على أنه خبر مبتدأ محذوف مثل منه أو بعثه‏.‏ ‏{‏إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ‏}‏ من نسبهم، أو من جنسهم عربياً مثلهم ليفهموا كلامه بسهولة ويكونوا واقفين على حاله في الصدق والأمانة مفتخرين به‏.‏ وقرئ من ‏{‏أَنفُسِهِمْ‏}‏ أي من أشرفهم لأنه عليه السلام كان من أشرف قبائل العرب وبطونهم‏.‏ ‏{‏يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياته‏}‏ أي القرآن بعدما كانوا جهالاً لم يسمعوا الوحي‏.‏ ‏{‏وَيُزَكّيهِمْ‏}‏ يطهرهم من دنس الطباع وسوء الاعتقاد والأعمال‏.‏ ‏{‏وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة‏}‏ أي القرآن والسنة‏.‏ ‏{‏وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضلال مُّبِينٍ‏}‏ إن هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة والمعنى وإن الشأن كانوا من قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم في ضلال ظاهر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏165- 165‏]‏

‏{‏أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏165‏)‏‏}‏

‏{‏أَوَ لَمَّا أصابتكم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أنى هذا‏}‏ الهمزة للتقريع والتقرير، والواو عاطفة للجملة على ما سبق من قصة أحد أو على محذوف مثل أفعلتم كذا وقلتم، ولما ظرفه المضاف إلى ما أصابتكم أي أقلتم حين أصابتكم مصيبة وهي قتل سبعين منكم يوم أحد، والحال إنكم نلتم ضعفها يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين من أين هذا أصابنا وقد وعدنا الله النصر‏.‏ ‏{‏قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ‏}‏ أي مما اقترفته أنفسكم من مخالفة الأمر بترك المركز فإن الوعد كان مشروطاً بالثبات والمطاوعة، أو اختيار الخروج من المدينة‏.‏ وعن علي رضي الله تعالى عنه باختياركم الفداء يوم بدر‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ فيقدر على النصر ومنعه وعلى أن يصيب بكم ويصيب منكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏166- 166‏]‏

‏{‏وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏166‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أصابكم يَوْمَ التقى الجمعان‏}‏ جمع المسلمين وجمع المشركين يريد يوم أحد‏.‏ ‏{‏فَبِإِذْنِ الله‏}‏ فهو كائن بقضائه أو تخليته الكفار سماها إذناً لأنها من لوازمه‏.‏ ‏{‏وَلِيَعْلَمَ المؤمنين‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏167- 173‏]‏

‏{‏وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ‏(‏167‏)‏ الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏168‏)‏ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ‏(‏169‏)‏ فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏170‏)‏ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏171‏)‏ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏172‏)‏ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ‏(‏173‏)‏‏}‏

‏{‏وَلِيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ‏}‏ وليتميز المؤمنون والمنافقون فيظهر إيمان هؤلاء وكفر هؤلاء‏.‏ ‏{‏وَقِيلَ لَهُمْ‏}‏ عطف على نافقوا داخل في الصلة أو كلام مبتدأ‏.‏ ‏{‏تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا‏}‏ تقسيم للأمر عليهم وتخيير بين أن يقاتلوا للآخرة أو للدفع عن الأنفس والأموال‏.‏ وقيل معناه قاتلوا الكفرة أو ادفعوهم بتكثيرهم سواد المجاهدين، فإن كثرة السواد مما يروع العدو ويكسر منه‏.‏ ‏{‏قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتبعناكم‏}‏ لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالاً لاتبعناكم فيه لكن ما أنتم عليه ليس بقتال بل إلقاء بالأنفس إلى التهلكة، أو لو نحسن قتالاً لاتبعناكم فيه، وإنما قالوه دغلاً واستهزاء‏.‏ ‏{‏هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ للإيمان‏}‏ لانخذالهم وكلامهم هذا فإنهما أول أمارات ظهرت منهم مؤذنة بكفرهم‏.‏ وقيل هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان، إذ كان انخذالهم ومقالهم تقوية للمشركين وتخذيلاً للمؤمنين‏.‏ ‏{‏يَقُولُونَ بأفواههم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ‏}‏ يظهرون خلاف ما يضمرون، لا تواطئ قلوبهم ألسنتهم بالإِيمان‏.‏ وإضافة القول إلى الأفواه تأكيد وتصوير‏.‏ ‏{‏والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ‏}‏ من النفاق‏.‏ وما يخلوا به بعضهم إلى بعض فإنه يعلمه مفصلاً بعلم واجب وأنتم تعلمونه مجملاً بأمارات‏.‏

‏{‏الذين قَالُواْ‏}‏ رفع بدلاً من واو ‏{‏يَكْتُمُونَ‏}‏، أو نصب على الذم أو الوصف للذين نافقوا، أو جر بدلاً من الضمير في ‏{‏بأفواههم‏}‏ أو ‏{‏قُلُوبِهِمْ‏}‏ كقوله‏:‏

عَلَى حَالةٍ لَوْ أَنَّ فِي القَوْمِ حَاتِما *** عَلَى جُودِهِ لضَنَّ بِالمَاءِ حَاتِمُ

‏{‏لإخوانهم‏}‏ أي لأجلهم، يريد من قتل يوم أحد من أقاربهم أو من جنسهم‏.‏ ‏{‏وَقَعَدُواْ‏}‏ حال مقدرة بقد أي قالوا قاعدين عن القتال‏.‏ ‏{‏لَوْ أَطَاعُونَا‏}‏ في القعود بالمدينة‏.‏ ‏{‏مَا قُتِلُوا‏}‏ كما لم نقتل‏.‏ وقرأ هشام ‏{‏مَا قُتِلُوا‏}‏ بتشديد التاء‏.‏ ‏{‏قُلْ فَادْرَءوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ أي إن كنتم صادقين إنكم تقدرون على دفع القتل عمن كتب عليه فادفعوا عن أنفسكم الموت وأسبابه، فإنه أحرى بكم، والمعنى أن القعود غير مغن عن الموت، فإن أسباب الموت كثيرة كما أن القتال يكون سبباً للهلاك والقعود سبباً للنجاة قد يكون الأمر بالعكس‏.‏

‏{‏وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أمواتا‏}‏ نزلت في شهداء أحد‏.‏ وقيل في شهداء بدر والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد‏.‏ وقرئ بالياء على إسناده إلى ضمير الرسول، أو من يحسب أو إلى الذين قتلوا‏.‏ والمفعول الأول محذوف لأنه في الأصل مبتدأ جائز الحذف عند القرينة‏.‏ وقرأ ابن عامر قتلوا بالتشديد لكثرة المقتولين‏.‏ ‏{‏بَلْ أَحْيَاء‏}‏ أي بل هم أحياء‏.‏ وقرئ بالنصب على معنى بل أحسبهم أحياء ‏{‏عِندَ رَبّهِمْ‏}‏ ذوو زلفى منه‏.‏ ‏{‏يُرْزَقُونَ‏}‏ من الجنة وهو تأكيد لكونهم أحياء‏.‏

‏{‏فَرِحِينَ بِمَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ‏}‏ وهو شرف الشهادة والفوز بالحياة الأبدية والقرب من الله تعالى والتمتع بنعيم الجنة‏.‏

‏{‏وَيَسْتَبْشِرُونَ‏}‏ يسرون بالبشارة‏.‏ ‏{‏بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم‏}‏ أي بإخوانهم المؤمنين الذين لم يقتلوا فيلحقوا بهم‏.‏ ‏{‏مّنْ خَلْفِهِمْ‏}‏ أي الذين من خلفهم زماناً أو رتبة‏.‏ ‏{‏أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ بدل من الذين والمعنى‏:‏ إنهم يستبشرون بما تبين لهم من أمر الآخرة وحال من تركوا من خلفهم من المؤمنين، وهو إنهم إذا ماتوا أو قتلوا كانوا أحياء حياة لا يكدرها خوف وقوع محذور، وحزن فوات محبوب‏.‏ والآية تدل على أن الإنسان غير الهيكل المحسوس بل هو جوهر مدرك بذاته لا يفنى بخراب البدن، ولا يتوقف عليه إدراكه وتألمه والتذاذه، ويؤيد ذلك قوله تعالى في آل فرعون ‏{‏النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا‏}‏ الآية وما روى ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام قال «أرواح الشهداء في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل معلقة في ظل العرش» ومن أنكر ذلك ولم ير الروح إلا ريحاً وعرضاً قال هم أحياء يوم القيامة، وإنما وصفوا به في الحال لتحققه ودنوه أو أحياء بالذكر أو بالإيمان‏.‏ وفيها حث على الجهاد وترغيب في الشهادة وبعث على ازدياد الطاعة وإحماد لمن يتمنى لإِخوانه مثل ما أنعم عليه، وبشرى للمؤمنين بالفلاح‏.‏

‏{‏يَسْتَبْشِرُونَ‏}‏ كرره للتأكيد وليعلق به ما هو بيان لقوله‏:‏ ‏{‏أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ‏}‏ ويجوز أن يكون الأول بحال إخوانهم وهذا بحال أنفسهم‏.‏ ‏{‏بِنِعْمَةٍ مّنَ الله‏}‏ ثواباً لأعمالهم‏.‏ ‏{‏وَفَضْلٍ‏}‏ زيادة عليه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ‏}‏ وتنكيرهما للتعظيم‏.‏ ‏{‏وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين‏}‏ من جملة المستبشر به عطف على فضل‏.‏ وقرأ الكسائي بالكسر على أنه استئناف معترض دال على أن ذلك أجر لهم على إيمانهم مشعر بأن من لا إيمان له أعماله محبطة وأجوره مضيعة‏.‏

‏{‏الذين استجابوا لِلَّهِ والرسول مِن بَعْدِ مَا أصابهم القرح‏}‏ صفة للمؤمنين، أو نصب على المدح أو مبتدأ خبره‏.‏ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏ بجملته ومن البيان، والمقصود من ذكر الوصفين المدح والتعليل لا التقييد، لأن المستجيبين كلهم محسنون متقون‏.‏ روي «أن أبا سفيان وأصحابه لما رجعوا فبلغوا الروحاء ندموا وهموا بالرجوع، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فندب أصحابه للخروج في طلبه وقال لا يخرجن معنا إلا من حضر يومنا بالأمس، فخرج عليه الصلاة والسلام مع جماعة حتى بلغوا حمراء الأسد وهي ثمانية أميال من المدينة وكان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر، وألقى الله الرعب في قلوب المشركين فذهبوا» فنزلت‏.‏

‏{‏الذين قَالَ لَهُمُ الناس‏}‏ يعني الركب الذين استقبلوهم من عبد قيس أو نعيم بن مسعود الأشجعي، وأطلق عليه الناس لأنه من جنسهم كما يقال فلان يركب الخيل وماله إلا فرس واحد لأنه انضم إليه ناس من المدينة وأذاعوا كلامه‏.‏

‏{‏إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم‏}‏ يعني أبا سفيان وأصحابه روي‏:‏ أنه نادى عند انصرافه من أحد‏:‏ يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إن شاء الله تعالى» فلما كان القابل خرج في أهل مكة حتى نزل بمر الظهران فأنزل الله الرعب في قلبه وبدا له أن يرجع، فمر به ركب من عبد قيس يريدون المدينة للميرة فشرط لهم حمل بعير من زبيب أن ثبطوا المسلمين‏.‏ وقيل‏:‏ لقي نعيم بن مسعود وقد قدم معتمراً فسأله ذلك والتزم له عشراً من الإِبل، فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم أتوكم في دياركم فلم يفلت منكم أحد إلا شريد افترون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم ففتروا، فقال عليه السلام «والذي نفسي بيده لأخرجن ولو لم يخرج معي أحد» فخرج في سبعين راكباً وهم يقولون حسبنا الله‏.‏ ‏{‏فَزَادَهُمْ إيمانا‏}‏ الضمير المستكن للمقول أو لمصدر قال أو لفاعله أن أريد به نعيم وحده، والبارز للمقول لهم والمعنى‏:‏ إنهم لم يلتفتوا إليه ولم يضعفوا بل ثبت به يقينهم بالله وازداد إيمانهم وأظهروا حمية الإِسلام وأخلصوا النية عنده، وهو دليل على أن الإِيمان يزيد وينقص ويعضده قول ابن عمر رضي الله عنهما «قلنا يا رسول الله الإِيمان يزيد وينقص، قال‏:‏ نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار» وهذا ظاهر إن جعل الطاعة من جملة الإِيمان وكذا إن لم تجعل فإن اليقين يزداد بالإِلف وكثرة التأمل وتناصر الحجج‏.‏ ‏{‏وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله‏}‏ محسبنا وكافينا، من أحسبه إذا كفاه ويدل على أنه بمعنى المحسب إنه لا يستفيد بالإِضافة تعريفاً في قولك هذا رجل حسبك‏.‏ ‏{‏وَنِعْمَ الوكيل‏}‏ ونعم الموكول إليه هو فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏174- 174‏]‏

‏{‏فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ‏(‏174‏)‏‏}‏

‏{‏فانقلبوا‏}‏ فرجعوا من بدر‏.‏ ‏{‏بِنِعْمَةٍ مّنَ الله‏}‏ عافية وثبات على الإِيمان وزيادة‏.‏ ‏{‏وَفَضْلٍ‏}‏ وربح في التجارة فإنهم لما أتوا بدراً وأوفوا بها سوقاً فاتجروا وربحوا‏.‏ ‏{‏لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء‏}‏ من جراحة وكيد عدو‏.‏ ‏{‏واتبعوا رضوان الله‏}‏ الذي هو مناط الفوز بخير الدارين بجراءتهم وخروجهم‏.‏ ‏{‏والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ‏}‏ قد تفضل عليهم بالتثبيت وزيادة الإِيمان والتوفيق للمبادرة إلى الجهاد، والتصلب في الدين وإظهار الجراءة على العدو، وبالحفظ عن كل ما يسوءهم، وإصابة النفع مع ضمان الأجر حتى انقلبوا بنعمة من الله وفضل‏.‏ وفيه تحسير للمتخلف وتخطئة رأيه حيث حرم نفسه ما فازوا به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏175- 175‏]‏

‏{‏إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏175‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا ذلكم الشيطان‏}‏ يريد به المثبط نعيماً أو أبا سفيان، والشيطان خبر ‏{‏ذلكم‏}‏ وما بعده بيان لشيطنته أو صفته وما بعده خبر، ويجوز أن تكون الإِشارة إلى قوله على تقدير مضاف أي إنما ذلكم قول الشيطان يعني إبليس عليه اللعنة‏.‏ ‏{‏يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ‏}‏ القاعدين عن الخروج مع الرسول، أو يخوفكم أولياؤه الذين هم أبو سفيان وأصحابه‏.‏ ‏{‏فَلاَ تَخَافُوهُمْ‏}‏ الضمير للناس الثاني على الأول وإلى الأولياء على الثاني‏.‏ ‏{‏وَخَافُونِ‏}‏ في مخالف أمري فجاهدوا مع رسولي‏.‏ ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ مُؤمِنينَ فإِن الإِيمان يقتضي إيثار خوف الله تعالى على خوف الناس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏176- 176‏]‏

‏{‏وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏176‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يسارعون فِى الكفر‏}‏ يقعون فيه سريعاً حرصاً عليه، وهم المنافقون من المتخلفين، أو قوم ارتدوا عن الإسلام‏.‏ والمعنى لا يحزنك خوف أن يضروك ويعينوا عليك لقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً‏}‏ أي لن يضروا أولياء الله شيئاً بمسارعتهم في الكفر، وإنما يضرون بها أنفسهم‏.‏ وشيئاً يحتمل المفعول والمصدر وقرأ نافع ‏{‏يَحْزُنكَ‏}‏ بضم الياء وكسر الزاي حيث وقع ما خلا قوله في الأنبياء لا يحزنهم الفزع الأكبر، فإنه فتح الياء وضم الزاي فيه والباقون كذلك في الكل‏.‏ ‏{‏يُرِيدُ الله أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخرة‏}‏ نصيباً من الثواب في الآخرة، وهو يدل على تمادي طغيانهم وموتهم على الكفر، وفي ذكر الإِرادة إشعار بأن كفرهم بلغ الغاية حتى أراد أرحم الراحمين أن لا يكون لهم حظ من رحمته، وإن مسارعتهم في الكفر لأنه تعالى لم يرد أن يكون لهم حظ في الآخرة‏.‏ ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ‏}‏ مع الحرمان عن الثواب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏177- 177‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏177‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ تكرير للتأكيد، أو تعميم للكفرة بعد تخصيص من نافق من المتخلفين، أو ارتد من العرب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏178- 178‏]‏

‏{‏وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏178‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ‏}‏ خطاب للرسول عليه السلام، أو لكل من يحسب‏.‏ والذين مفعول و‏{‏أَنَّمَا نُمْلِي‏}‏ لهم بدل منه، وإنما اقتصر على مفعول واحد لأن التعويل على البدل وهو ينوب عن المفعولين كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ‏}‏‏.‏ أو المفعول الثاني على تقدير مضاف مثل‏:‏ ولا تحسبن الذين كفروا أصحاب أن الإِملاء خير لأنفسهم، أو ولا تحسبن حال الذين كفروا أن الإِملاء خير لأنفسهم، وما مصدرية وكان حقها أن تفصل في الخط ولكنها وقعت متصلة في الإِمام فاتبع‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم والكسائي ويعقوب بالياء على ‏{‏إِنَّ الذين‏}‏ فاعل وإن مع ما في حيزه مفعول وفتح سينه في جميع القرآن ابن عامر وحمزة وعاصم‏.‏ والإِملاء الإِمهال وإطالة العمر‏.‏ وقيل تخليتهم وشأنهم، من أملى لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعي كيف شاء‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً‏}‏ استئناف بما هو العلة للحكم قبلها، وما كافة واللام لام الإِرادة‏.‏ وعند المعتزلة لام العاقبة‏.‏ وقرئ ‏{‏إِنَّمَا‏}‏ بالفتح هنا وبكسر الأولى ولا يحسبن بالياء على معنى ‏{‏وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ أن إملاءنا لهم لازدياد الإِثم بل للتوبة والدخول في الإِيمان، و‏{‏إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ‏}‏ اعتراض‏.‏ معناه أن إملاءنا خير لهم أن انتبهوا وتداركوا فيه ما فرط منهم‏.‏ ‏{‏وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏ على هذا يجوز أن يكون حالاً من الواو أي ليزدادوا إثماً معداً لهم عذاب مهين‏.‏